ا.د ابراهيم محمد مرجونة .. يكتب : العنف في المجتمع ونداء الإصلاح

لا يمر يوم إلا وتطالعنا الأخبار بـمآسٍ تقرع جدران الصمت: شاب يهاجم زميله بآلة حادة، زوج يضرب زوجته بلا رحمة، أو جريمة خطف تهز البيوت الآمنة. أصبحت صور العنف المفرط ترسم ملامح مجتمعنا، لاسيما بين الشباب، فبدت العلاقات هشّة والدماء تراق حين يُخفق الحوار وتضيع الرحمة.
لكن وراء هذه القصص ثمة أسئلة تفرض نفسها: لماذا كل هذا العنف؟ لماذا أصبح وقوعه بهذه الوحشية أمرًا متكررًا؟ وكيف يمكن لنا أن نوقف هذا النزيف في روح المجتمع؟
الأدب العربي أبدع في تصوير العنف، كاشفًا عن جذوره في النفس والأسرة والشارع. ففي رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري، نجد مشاهد الأب الغاضب الذي ينصب نفسه جلادًا على ابنه، فتنطبع روحه بخوف دائم، يتحول لاحقًا لشكل آخر من العنف.
أما في “عطارد” لمحمد ربيع، فالعنف لا يأتي منفردًا، بل يصبح نظامًا يوميًا، حيث لا مكان للضعفاء في مواجهة عالم فقد معاييره الأخلاقية، وصار الدم هو السبيل الوحيد للبقاء والاستمرار.
وفي رواية “نساء.. ولكن!” لنور عبد المجيد، تصرخ البطلة في وجه المجتمع، بعد أن جرّبَت كل أشكال الإذلال من زوج وأب وشارع، راسمة صورة المرأة المسحوقة في دوامة عنف لا يكسرها سوى هبة احتجاج داخلي، هي أقرب لعنف معاكس يحاول النجاة بنفسه.
هذه الشواهد الروائية ليست مجرد مبالغات فنية، بل تُظهر بوضوح كيف يتحول العنف الفردي إلى جزء من نسيج المجتمع.
وبعيدا عن الرواية الأدبية فالاغتيال المعنوي وعدم توسيد الأمر لأهله أشد أنواع العنف
وبحسب علماء النفس والاجتماع، فإن العنف ليس خطوة تلقائية، بل ثمرة تراكمات طويلة. الأطفال الذين ينشؤون في بيئة أسرية مضطربة، حيث تغيب لغة الحوار ويتفشى الضرب والإهانة كتقويم، يتعلمون ألا سبيل لحل المشكلات إلا بالقوة. تلك الدروس الحزينة لا تظل محبوسة في البيوت، بل تنتقل إلى الشارع والمدرسة، ويربي المجتمع شبابًا يرفضون الحوار ويلجأون إلى العدوان كلما واجهوا عثرة.
ويؤكد المختصون أن حالات الفقر الشديد، وغياب فرص العمل، وانعدام الشعور بالأمان الاجتماعي، كلها عوامل تخلق لدى الشباب إحساسًا بالعجز والغضب، يدفعهم أحيانًا إلى انتزاع حقوقهم بالقوة أو إلى الانتقام حين يشعرون بالإهانة أو التهميش.ويجذر هذا الشعور لديه اعمال السينما والدراما التي تصنع من بطل العنف أسطورة.
مشكلة أخرى تفاقم الأزمة هي وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية. فقد أتاح العالم الرقمي شبابًا وأطفالًا يتبادلون لقطات العنف ويعجبون بها، فتتشكل لديهم قناعة خطيرة بأن العنف وسيلة مقبولة لتحقيق النجاح أو الانتقام. في كل مرة ينتصر فيها بطل اللعبة الافتراضية بمعارك دموية، تزداد القسوة في نفوس اللاعبين، وتتآكل القدرة على التعاطف والرحمة في النفس.
من جانب آخر، غابت عن المشهد القيمي مؤسسات كان لها دور تاريخي بالغ: المسجد والكنيسة. لم تعد برامج التوعية الدينية والاجتماعية حاضرة وسط ضجيج الشاشات وازدحام المحتوى الرقمي، ففقدت كثير من الأسر فرص الاحتواء والتهذيب القيمي الذي تعودنا عليه في الماضي، وانطفأت شموع الحوار والرحمة خلف أسوار الطقوس التقليدية.
والسؤال الذي يطرح نفسه كيف نوقف دوامة العنف؟
تجديد التربية الأسرية: البداية من البيت، حيث يجب استبدال لغة الضرب والإهانة بالحوار والاحتواء، وتقديم القدوة الحسنة للأبناء.
توعية رقمية صارمة: لا بد للأسرة والمجتمع من مراقبة محتوى التواصل الاجتماعي والألعاب، والعمل مع الجهات المختصة لتنقية هذا الفضاء الرقمي من المواد المحرضة والتوعية بمخاطر العنف.
بعث دور المسجد والكنيسة ومؤسسات الدولة التعليمية والتثقيفية والتوعوية: يجب أن تستعيد هذه المؤسسات دورها في بناء شخصية الإنسان، بمبادرات تربوية وحلقات نقاش وبرامج دعم نفسي وروحي، لا بمجرد خطب تقليدية.
دعم الصحة النفسية والاجتماعية: توفير مراكز متخصصة للعلاج النفسي للمراهقين والأسر، ودعم برامج العمل التطوعي والمسؤولية المجتمعية.
تغيير الخطاب الإعلامي: على الإعلام العربي أن يراجع خطابه وينحاز لقيم التسامح والحوار، وينتج محتوى يرسخ صورة الإنسان الهادئ القادر على ضبط نفسه، لا البطل العنيف السريع الغضب.
النشاط المدرسي والمجتمعي: يجب إدماج التربية النفسية والاجتماعية في المناهج، وتكوين جمعيات أهلية لتوفير أنشطة جماعية تشجع التعاون بدل التصارع.
يبقى المجتمع في أمس الحاجة إلى ثورة قيم وأخلاق تعيد للإنسان الاعتبار، وتُعيد تعريف القوة بأنها قدرة على ضبط النفس والتسامح، لا على الضرب والانتصار. إن مشاهد الدم التي تعرضها الروايات ليست نهاية الحكاية، بل هي دعوة لإعادة البناء من جديد، لتكريس لغة الاحترام والتفاهم في البيت، المدرسة، وسائل الإعلام، والمسجد والكنيسة.
لعل الأمل يبدأ بيد واحدة تحنو، وكلمة طيبة تداوي، إذ لا خلاص للمجتمع إلا بخطوات هادئة وعميقة نحو بناء الإنسان الذي يصون نفسه ومجتمعه من كل أشكال القسوة.
“ربما لا نقدر أن نغيّر العالم في لحظة، لكننا نستطيع أن نملأ بيتنا بالحب، وجامعتنا بالحوار، وشارعنا بالأمان. فكل زهرة تنبت في أرض قاحلة هي انتصار صغير ضد العنف الكبير.”
وفي الأخير: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ليس الشديد بِالصُّرَعَةِ ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه البخاري . والصٌّرَعة: هو الذي يغلب الناس بقوته.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أن رجلاً قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أوصني ، قال : لا تغضب ، فردد مراراً ، قال : لا تغضب ) رواه البخاري






